فصل
في قوله تعالى { فلا أقسم بالشفق }
ومن ذلك إقسامه بـ { فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق } فأقسم بثلاثة أشياء متعلقة بالليل: ( أحدها ) الشفق وهو في اللغة الحمرة بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة وكذلك هو في الشرع. ( الثاني ) قسمه بالليل وما وسق أي وما ضم وحوى وجمع. والليل وما ضمه وحواه آية أخرى، والقمر آية، واتساقه آية أخرى. والشفق يتضمن إدبار النهار وهو آية، وإقبال الليل وهو آية أخرى، فإن هذا إذا أدبر خلفه الآخر، يتعاقبان لمصالح الخلق، فإدبار النهار آية، وإقبال الليل آية، وتعقب أحدهما الآخر آية، والشفق الذي هو متضمن الأمرين آية، والليل آية، وما حواه آية، والهلال آية، وتزايده كل ليلة آية، واتساقه [ وهو الثالث ] - وهو امتلاؤه نورا – آية، ثم أخذه في النقص آية. وهذه وأمثالها آيات دالة على ربوبيته، مستلزمة للعلم بصفات كماله. ولهذا شرع - عند إقبال الليل وإدبار النهار - ذكر الرب تعالى بصلاة المغرب. كما شرع ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النهار. ولهذا يقسم سبحانه بهذين الوقتين كقوله { والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر } وهو يقابل إقسامه بالشفق. ونظيره إقسامه بـ { والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس }
ولما كان الرب تبارك وتعالى يحدث عن كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه، ويبث من خلقه ما شاء. فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل، وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار، فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره . شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين، مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين. وعند انصرام إحداهما واتصال الأخرى بها، مع ما بينهما من التضاد والاختلاف، وانتقال الحيوان عند ذلك من حال إلى حال، ومن حكم إلى حكم، وذلك مبدأ ومعاد يومي، مشهود للخليقة كل يوم وليلة، فالحيوان والنبات في مبدأ ومعاد، وزمان العالم في مبدأ ومعاد { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير }
فصل
في جواب القسم
وقوله { لتركبن طبقا عن طبق } الظاهر أنه جواب القسم ويجوز أن يكون من القسم المحذوف جوابه ولتركبن وما بعده مستأنف. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لتصيرن الأمور حالا بعد حال. وقيل لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال، من النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى كونه حيا، إلى خروجه إلى هذه الدار، ثم ركوبه طبق التمييز بين ما ينفعه ويضره، ثم ركوبه بعد ذلك طبقا آخر وهو طبق البلوغ، ثم ركوبه طبق الأشد، ثم طبق الشيخوخة، ثم طبق الهرم، ثم ركوبه طبق ما بعد الموت في البرزخ، وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقا عديدة، لا يزال ينتقل فيها حالا بعد حال إلى دار القرار. فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد، ثم يفعل الله سبحانه بعد ذلك ما يشاء.
وأنت إذا تأملت هذا المقسم به والمقسم عليه وجدته من أعظم الآيات الدالة على الربوبية، وتغيير الله سبحانه للعالم، وتصريفه له كيف أراد، ونقله إياه من حال إلى حال. وهذا محال أن يكون بنفسه من غير فاعل مدبر له. ومحال أن يكون فاعله غير قادر، ولا حي، ولا مريد، ولا حكيم، ولا عليم. وكلاهما في الامتناع سواء، فالمقسم به وعليه من أعظم الأدلة على ربوبيته، وتوحيده، وصفات كماله، وصدقه، وصدق رسله، وعلى المعاد، ولهذا عقب ذلك بقوله { فما لهم لا يؤمنون } إنكارا على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام. وأنكر عليهم عدم خضوعهم وسجودهم للقرآن المشتمل على ذلك بأفصح عبارة وأبينها وأجزلها وأوجزها، فالمعنى أشرف معنى، والعبارة أشرف عبارة: غاية الحق بغاية البيان والفصاحة.
{ بل الذين كفروا يكذبون } ولا يصدقون بالحق جحودا وعنادا { والله أعلم بما يوعون } بما يضمرون في صدروهم ويكتمونه وما يسرونه من أعمالهم وما يجمعونه فيجازيهم عليه بعلمه وعدله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون }